سوف تلاحقك المدينة
حسن رجب
عزيزي القارئ،
ستلاحظ أن هذه الكلمات ليست ذات صلة بتعريف اللغة الإنجليزية. لست متأكدًا تمامًا من السبب وراء ابتعادي عن ذلك، ربما لأنني أرى العديد من الجوانب التي تضيع في الترجمة، أو ربما لاختلاف أحاسيسي باختلاف اللغة، بل وباختلاف الوسيط الفني المستخدم في أعمالي، فأعمالي المعروضة هنا تعكس شخصيتي إلى حد كبير، وربما عرض أفكاري هنا بلغتي الأم يعكس تفكيري العميق. دائما ما أجد الصدق في الصور والكلمات.
لن أطيل عليك أيها القارئ، بل سأتركك هنا بعض كلمات قسطنطين كفافيس، ربما تجد فيها ما لم أستطع التعبير عنه بكلامي.
"سأذهب إلى أرض ثانية وبحر آخر
إلى مدينة أخرى تكون أفضل من تلك المدينة
كل محاولاتى مقضي عليها بالفشل
وقلبي دفن كالميت
إلى متى سيكون فكري حزينا؟ أينما جلت بعيني،
أينما نظرت حولي بإمعان، رأيت خرائب سوداء من حياتي
حيث العديد من السنين قضيت وهدمت وبددت
لن تجد بلادا ولا بحورا أخرى فسوف تلاحقك المدينة
ستهيم في نفس الشوارع وستدركك الشيخوخة
في هذه الأحياء نفسها وفي البيوت ذاتها
سيدب الشيب إلى رأسك
وستصل دوما إلى هذه المدينة
لا تأمل في بقاع أخرى، ما من سفين من أجلك
وما من سبيل .. ما دمت قد خربت حياتك هنا
في هذا الركن الصغير .. فهي خراب أينما كنت في الوجود".
The City is a Tram
المدينة عبارة عن ترام
عشتُ في المدينة طوال حياتي تقريباً قبل أن أنتقل إلى الولايات المتّحدة. وبالنسبة لي، لم تشهد المدينة الكثير من التغيّرات بعد السنوات الطويلة التي أمضيتها في بلاد الاغتراب. ولكن بالرغم من هذا الاستقرار، فقد دفعتني إلى التشكيك في ذكرياتي، إذ لا بدّ أن تكون عدّة عواصف قد ضربت المدينة خلال سنوات حياتي الـ35. وجعلني هذا التأمّل أُدرك الروابط غير الملموسة التي أتشاركها مع المدينة، بدءاً من ذكريات الطفولة عندما كنتُ أحاول وأصدقائي التسابق مع الترام، مروراً بالساعات التي أمضيتها مع صديقتي يمنى التي أصبحت اليوم زوجتي، حيث كنّا نسير معاً تحت المطر في شوارع المدينة القديمة ونتأمّل هندستها المعمارية الأوروبية المختلطة، وصولاً إلى دموع الوداع الذي ذرفناها في أزقّتها عندما حان وقت المغادرة. لقد تغيّرت المدينة تماماً مثلما تغيّرتُ أنا. وكل ما أستطيع فعله الآن هو العودة إلى زيارتها والتساؤل عما كانت عليه سابقاً من خلال ذكرياتي.
يضمّ قسم "المدينة عبارة عن ترام" مجموعة فنيّة من الصور التي تجسّد تلك الذكريات غير الملموسة، فتعكس الهويّة البصرية لمدينتي الأم.
Cairo Sketches
رسومات القاهرة
أعتقدُ أنّ القاهرة قد تبدو محيّرة للوهلة الأولى بالنسبة إلى شخصٍ غريب، حيث تعكس سحراً آسراً وغريباً في الوقت ذاته. شهدت هذه المدينة القديمة على مدى آلاف السنين حضارات وثقافات عدة، وقد تركت جميعها بصمةً لا يمحوها الزمن. ونظراً للتاريخ العريق الذي تتغنّى به هذه المدينة، تتجلّى في القاهرة ملامح التعب والإرهاق من المشقّات التي عرفتها في ما مضى، حيث تبدو قصصها المرهقة كما لو أنّها حُفرت على جدرانها.
يسير السكان المحليون يومياً بتناغمٍ تام عبر شوارعها، ويتلاقون كلهم معاً لركوب الحافلة. تجسّد تجربة الركوب في حافلة القاهرة روح المدينة الحقيقية، حيث تتسم بطابعٍ فريد وجميل لا يُنسى، فتكشف عن طبيعتها المتميّزة. تخيّل مكاناً مكتظاً جداً ولكن بالرغم من ازدحامه الشديد، يفسح كل فرد مكاناً لشخصٍ آخر. يشبه هذا الشعور استقبال الغرباء في المنزل أو أخذهم بين الأحضان.
في حين أن القاهرة تضمّ عدداً كبيراً من المعالم السياحية، لا يكمن سحرها الحقيقي في معالمها المميّزة فحسب، بل في الحكايات الصامتة التي تسردها جدرانها وشوارعها. فهي تروي قصص الصمود والأحلام ولحظات الفرح والحزن همساً، وتؤدي دور المدافع الصامت عن سكانها الذين اختبروا مختلف المصائب عبر الزمن.
تعد "سلسلة رسومات القاهرة" انعكاساً فنّياً لتلك الحقيقة، حيث تسعى إلى سدّ الفجوة بين الشوارع والحشود الملموسة والجمال غير الملموس لهذه الحكايات الهامسة، فتوفّر للمشاهدين فرصة اختبار رحلة مبهرة إلى قلب القاهرة.